فصل: تفسير الآيات (41- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (41- 48):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)}
اشمأز، قال أبو زيد: زعر. قال غيره: تقبض كراهة ونفوراً. قال الشاعر:
إذا عض الثقات بها اشمأزت ** وولته عشوزية زبونا

لما كان عليه السلام يعظم عليه عدم إيمانهم ورجوعهم إلى ما أنزل الله تعالى عليه، سلاه تعالى عن ذلك، وأخبره أنه أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن، مصحوباً بالحق، وهو دين الإسلام، للناس: أي لأجلهم، إذ فيه تكاليفهم. {فمن اهتدى}: فثواب هدايته إنما هو له، {ومن ضل}: فعقاب ضلاله إنما هو عليه، {وما أنت عليهم بوكيل}: أي فتجبرهم على الإيمان. قال قتادة: بوكيل: بحفيظ. وقال الزمخشري: للناس: لأجل حاجتهم إليه، ليبشروا وينذروا. فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية، فلا حاجة لي إلى ذلك، فأنا الغني. فمن اختار الهدى، فقد نفع نفسه؛ ومن اختار الضلالة، فقد ضرها، وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى. فإن التكليف مبني على الاختيار دون الإجبار. انتهى، وهو على مذهب المعتزلة.
ولما ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب على رسوله بالحق للناس، نبه على أنه من آياته الكبرى يدل على الوحدانية، لا يشركه في ذلك صنم وعلى غيره، فقال: {الله يتوفى الأنفس حين موتها}، والأنفس هي الأرواح. وقيل: النفس غير الروح، قاله ابن عباس. فالروح لها تدبير عالم الحياة، والنفس لها تدبيه عالم الإحساس. وفرقت فرقة بين نفس التمييز ونفس التخييل. والذي يدل عليه الحديث واللغة أن النفس والروح مترادفان، وأن فراق ذلك من الجسد هو الموت. ومعنى يتوفى النفس: يميتها، والتي: أي والأنفس التي لم تمت في منامها، أي يتوفاها حين تنام، تشبيهاً للنوام بالأموات. ومنه: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} فبين الميت والنائم قدر مشترك، وهو كونهما لا يميزان ولا يتصرفان. فيمسك من قضى عليها الموت الحقيقي، ولا يردها في وقتها حية؛ ويرسل النائمة لجسدها إلى أجل ضربه لموتها. وقيل: {يتوفى الأنفس}: يستوفيها ويقبضها، وهي الأنفس التي يكون معها الحياة والحركة. ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي أنفس التمييز، قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس. والنائم يتنفس، وكون النفس تقبض، والروح في الجسد حالة النوم، بدليل أنه يتقلب ويتنفس، هو قول الأكثرين. ودل على التغاير وكونها شيئاً واحداً هو قول ابن جبير وأحد قولي ابن عباس؛ والخوض في هذا، وطلب إدراك ذلك على جليته عناء ولا يوصل إلى ذلك. {إن في ذلك}: أي في توفي الأنفس مائتة ونائمة، وإمساكها وإسالها إلى أجل، {لآيات}: لعلامات دالة على قدرة الله وعلمه، {لقوم} يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرأ الجمهور: {قضى} مبنياً للفاعل، {الموت}: نصباً؛ وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وعيسى، وحمزة، والكسائي: مبنياً للمفعول؛ الموت: رفعاً.
فأم منقطعة تقدر ببل والهمزة، وهو تقرير وتوبيخ. وكانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عندنا، والشفاعة إنما هي لمن ارتضاه الله وبإذنه تعالى، وهذا مفقود في آلهتهم. وأولو معناه: أيتخذونهم شفعاءهم بهذه المثابة من كونهم لا يعقلون ولا يملكون شيئاً، وذلك عام النقص، فكيف يشفع هؤلاء؟ وتقدم لنا الكلام في أولو في سورة البقرة. وقال ابن عطية: متى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير. انتهى. وإذا كانوا لا يملكون شيئاً، فكيف يملكون الشفاعة؟ وقال الزمخشري: أي ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئاً قط حتى يملكوا الشفاعة، ولا عقل لهم. انتهى. فأتى بقوله: قط، بعد قوله: لا يملكون، وليس بفعل ماض، وقط ظرف يستعمل مع الماضي لا مع غيره، وقد تكرر للزمخشري هذا الاستعمال، وليس باستعمال عربي.
{قل لله الشفاعة جميعاً}: فهو مالكها، يأذن فيها لمن يشاء ثم أتى بعام وهو: {له ملك السموات والأرض}، فاندرج فيه ملك الشفاعة. ولما كانت الشفاعة من غيره موقوفة على إذنه، كانت الشفاعة كلها له. ولما أخبر أنه له ملك السموات والأرض، هددهم بقوله: {ثم إليه ترجعون}، فيعلمون أنهم لا يشفعون، ويخيب سعيكم في عبادتهم. وقال الزمخشري: معناه له ملك السموات والأرض اليوم، ثم إليه ترجعون يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك إلا له، فله ملك الدنيا والآخرة.
{وإذا ذكر الله وحده}: أي مفرداً بالذكر، ولم يذكر مع آلهتهم. وقيل: إذا قيل لا إله إلا الله، {وإذا ذكر الذين من دونه}، وهي الأصنام. والاشمئزاز والاستبشار متقابلان غاية، لأن الاشمئزاز: امتلاء القلب غماً وغيظاً، فيظهر أثره، وهو الانقباض في الوجه، والاستبشار: امتلاؤه سروراً، فيظهر أثره، وهو الانبساط، والتهلل في الوجه. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في وإذا ذكر؟ قلت: العامل في إذا الفجائية تقديره: وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا الاستبشار. وقال الحوفي: {إذا هم يستبشرون}، إذا مضافة إلى الابتلاء والخبر، وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، والتقدير: إذا كان ذلك هم يستبشرون، فيكون هم يستبشرون العامل في إذا، المعنى: إذا كان ذلك استبشروا. انتهى. أما قول الزمخشري: فلا أعلمه من قول من ينتمي للنحو، وهو أن الظرفين معمولان لعامل واحد، ثم إذا الأولى ينتصب على الظرف، والثانية على المفعول به. وأما قول الحوفي فبعيد جدًّا عن الصواب، إذ جعل إذا ماضفة إلى الابتداء والخبر، ثم قال: وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هم يستبشرون؟ وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحدث فيه، وقد تقدم لنا في مواضع إذا التي للمفاجأة جواباً لإذا الشرطية، وقد قررنا في علم النحو الذي كتبناه أن إذا الشرطية ليست مضافة إلى الجملة التي تليها، وإن كان مذهب الأكثرين، وأنها ليست بمعمولة للجواب، وأقمنا الدليل على ذلك، بل هي معمولة للفعل الذي يليها، كسائر أسماء الشرطية الظرفية، وإذا الفجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط، كالفاء؛ وهي معمولة لما بعدها.
إن قلنا إنها ظرف، سواء كان زماناً أو مكاناً. ومن قال إنها حرف، فلا يعمل فيها شيء، فإذا الأولى معمولة لذكرهم، والثانية معمولة ليستبشرون. ولما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام، أمره أن يدعو بأسماء الله العظمى من القدرة والعلم ونسبة الحكم إليه، إذ غيره لا قدرة له ولا علم تام ولا حكم، وفي ذلك وصف لحالهم السيئ ووعيد لهم وتسلية للرسول عليه السلام. وتقدم الكلام في {اللهم} في سورة آل عمران.
{ولو أن للذين ظلموا}: تقدم الكلام على تشبيهه في العقود. {وبدا لهم من الله}: أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة، حسب ضلالاتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه. فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة، ظهر لهم خلاف ما كانوا يظنون، وما كان في حسابهم. وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء من هذه الآية. {وحاق بهم ما كانوا}: أي جزاء ما كانوا وما فيما كسبوا، يحتمل أن تكون بمعنى الذي، أي سيئات أعمالهم، وأن تكون مصدرية، أي سيئات كسبهم. والسيئات: أنواع، العذاب سميت سيئات، كما قال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}

.تفسير الآيات (49- 55):

{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)}
تقدم في غير آية كون الإنسان إذا مسه الضر التجأ إلى الله، مع اعتقادهم الأوثان وعبادتها. فإذا أصابتهم شدة، نبذوها ودعوا رب السموات والأرض، وهذا يدل على تناقض آرائهم وشدة اضطرابها. والإنسان جنس وضر مطلق، والنعمة عامة في جميع ما يسر، ومن ذلك إزالة الضر. وقيل: الإنسان معين، وهو حذيفة بن المغيرة. والظاهر أن ما في إنما كافة مهيئة لدخول إن على الجملة الفعلية، وذكر الضمير في {أوتيته}، وإن كان عائداً على النعمة، لأن معناها مذكر، وهو الأنعام أو المال، على قول من شرح النعمة بالمال، أو المعنى: شيئاً من النعمة، أو لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث، فغلب المذكر. وقيل: ما موصولة، والضمير عائد على ما، أي قال: إن الذي أوتيته على علم مني، أي بوجه المكاسب والمتاجر، قاله قتادة، وفيه إعجاب بالنفس وتعاظم مفرط. أو على علم من الله فيّ واستحقاق جزائه عند الله، وفي هذا احتراز الله وعجز ومنّ على الله. أو على علم مني بأني سأعطاه لما فيّ من فضل واستحقاق، بل هي فتنة إضراب عن دعواه أنه إنما أوتي على علم، بل تلك النعمة فتنة وابتلاء. ذكر أولاً في {أوتيته} على المعنى، إذ كانت ما مهيئة، ثم عاد إلى اللفظ فأنث في قوله {بل هي}، أو تكون هي عادت على الإتيان، أي بل إتيانه النعمة فتنة. وكان العطف هنا بالفاء في فإذا، بالواو في أول السورة لأنها وقعت مسببة عن قوله: {وإذا ذكر الله}، أي يشمئزون عند ذكر الله، ويستبشرون بذكر آلهتهم. فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره. ومناسبة السببية أنك تقول: زيد مؤمن، فإذا مسه الضر التجأ إلى الله. فالسبب هنا ظاهر، وزيد كافر، فإذا مسه الضر التجأ إليه، يقيم كفره مقام الإيمان في جعله سبباً للالتجاء، يحكي عكس ما فيه الكافر. يقصد بذلك الإنكار والتعجب من فعله المتناقض، حيث كفر بالله ثم التجأ إليه في الشدائد.
وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة، بل ناسبت ما قبلها، فعطفت عليه بالواو، وإذا كانت فإذا متصلة بقوله: {وإذا ذكر الله وحده}، كما قلنا، فما بينهما من الآي اعتراض يؤكد به ما بين المتصلين. فدعاء الرسول ربه بأمر منه وقوله: {أنت تحكم}، وتعقيبه الوعيد، تأكيد لاشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم. وقوله: {ولو أن للذين ظلموا} يتناول لهم، أو لكل ظالم، إن جعل مطلقاً أو إياهم خاصة إن عنوا به. انتهى، وهو ملتقط أكثره من كلام الزمخشري، وهو متكلف في ربط هذه الآية بقوله: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت} مع بعد ما بينهما من الفواصل.
وإذا كان أبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين، فكيف يجيزه بهذه الجمل الكثيرة؟ والذي يظهر في الربط أنه لما قال: {ولو أن للذين ظلموا} الآية، كان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب، وأنه يظهر لهم يوم القيامة من العذاب ما لم يكن في حسابهم، أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه، إذ كان إذا مسه دعا ربه، فإذا أحسن إليه، لم ينسب ذلك إليه. ثم إنه بعد وصف تلك النعمة أنها ابتلاء وفتنة، كما بدا له في الآخرة من عمله الذي كان يظنه صالحاً ما لم يكن في حسابه من سوء العذاب المترتب على ذلك العمل، ترتب الفتنة على تلك النعمة. {ولكن أكثرهم لا يعلمون}: أي إن ذلك استدراج وامتحان {قد قالها الذين من قبلهم}: أي قال مثل مقالتهم {أوتيته على علم}. والظاهر أن قائلي ذلك جماعة من الأمم الكافرة الماضية، كقارون في قوله: {قال إنما أوتيته على علم عندي} وقيل: الذين من قبلهم هم قارون وقومه، إذ رضوا بمقالته، فنسب القول إليهم جميعاً. وقرئ: قد قاله، أي قال القول أو الكلام. {فما أغنى عنهم}: يجوز أن تكون ما نافية، وهو الظاهر. وأن تكون استفهامية، فيها معنى النفي. {ما كانوا يكسبون}: أي من الأموال. {والذين ظلموا من هؤلاء}: إشارة إلى مشركي قريش، {سيصيبهم سيئات ما كسبوا}: جاء بسين الاستقبال التي هي أقل تنفيساً في الزمان من سوف، وهو خبر غيب، أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره. قتل رؤساءهم، وحبس عنه الرزق، فلم يمطروا سبع سنين؛ ثم بسط لهم، فمطروا سبع سنين، فقيل لهم: ألم تعلموا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله تعالى؟.
{قل يا عبادي الذين أسرفوا}: نزلت في وحشي قاتل حمزة، قاله عطاء؛ أو في قوم آمنوا عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما، ففتنتهم قريش، فافتتنوا وظنوا أن لا توبة لهم، فكتب عمر لهم بهذه الآية، قاله عمر والسدي وقتادة وابن إسحاق. وقيل: في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا: وما ينفعنا الإسلام وقد زنينا وقتلنا النف وأتينا كل كبيرة؟ ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما شدد على الكفار وذكر ما أعد لهم من العذاب، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه لافتدى به من عذاب الله، ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب إذا آمن العبد ورجع إلى الله. وكثيراً تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف. وهذه الآية عام في كل كافر يتوب، ومؤمن عاص يتوب، تمحو الذنب توبته. وقال عبد الله، وعلي، وابن عامر: هذه أرجى آية في كتاب الله. وتقدم الخلاف في قراءة {لا تقنطوا} في الحجر.
{إن الله يغفر الذنوب جميعاً}: عام يراد به ما سوى الشرك، فهو مقيد أيضاً بالمؤمن العاصي غير التائب بالمشيئة.
وفي قوله: {يا عبادي}، بإضافتهم إليه وندائهم، إقبال وتشريف. و{أسرفوا على أنفسهم}: أي بالمعاصي، والمعنى: إن ضرر تلك الذنوب إنما هو عائد عليهم، والنهي عن القنوط يقتضي الأمر بالرجاء، وإضافة الرحمة إلى الله التفات من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب، لأن في إضافتها إليه سعة للرحمة إذا أضيفت إلى الله الذي هو أعظم الأسماء، لأنه العلم المحتوي على معاني جميع الأسماء. ثم أعاد الاسم الأعظم، وأكد الجملة بأن مبالغة في الوعد بالغفران، ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة، وأكد بلفظ هو المقتضي عند بعضهم الحصر. وقال الزمخشري: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً}، شرط التوبة. وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه، لأن القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض. انتهى، وهو على طريقة المعتزلة في أن المؤمن العاصي لا يغفر له إلا بشرط التوبة.
ولما كانت هذه الآية فيها فسحة عظيمة للمسرف، أتبعها بأن الإنابة، وهي الرجوع، مطلوبة مأمور بها. ثم توعد من لم يتب بالعذاب، حتى لا يبقى المرء كالممل من الطاعة والمتكل على العفران دون إنابة. وقال الزمخشري: وإنما ذكر الإنابة على إثر المغفرة، لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم}، مثل قوله: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، وهو القرآن، وليس المعنى أن بعضاً أحسن من بعض، بل كله حسن. {من قبل أن يأتكم العذاب بغتة}، أي فجأة، {وأنتم لا تشعرون}: أي وأنتم غافلون عن حلوله بكم، فيكون ذلك أشد في عذابكم.